اقتحمت زينة حجرة المكتب الخاصة بمروان دون استئذان مما جعله يعقد حاجبيه وهو يرفع إليها عينين متسائلتين، كادت من تلك النظرة المتجهمة والتى اعتلت ملامحه أن تتراجع عن الحديث وان تخرج على الفور من الغرفة، الا أنها صممت على إبلاغه بقرارها فلم تعد تحتمل هذا الفراغ الذى تشعر به ولم يمضى على وجودها في هذا المكان يومان، لذا تقدمت باتجاهه وتوقفت أمام مكتبه قائلة في تصميم:
أنا عايزة أشتغل.
نظر اليها لحظات يحدق بعينيها في صمت وقد تجمدت ملامحه، أصابها القلق من صمته ولكنها تمسكت بذلك القناع الزائف من الثبات الذى تصدع تماما ما إن نهض مروان بهدوء والتف حول مكتبه ليقترب منها، حتى توقف أمامها تماما، ومال عليها قائلا بحروف كالصقيع:
للأسف الخدمات اللى بتقدميها مش محتاجينها هنا.
تغاضت زينة عن وجع قلبها الدامى من كلماته الجارحة وهى تنظر الى عمق عينيه قائلة في برود:.
وانا متعودتش أقعد كدة من غير ما أعمل حاجة، ولو خدماتى مش مطلوبة هنا أكيد هتكون مطلوبة في حتة تانية.
ضم مروان قبضته بقوة وهو يجز على أسنانه حتى لا يتهور ويصفعها لوقاحتها ولكنه تمالك نفسه وهو يقترب بوجهه منها تضرب أنفاسه الغاضبة الساخنة صفحة وجهها وهو يقول بصوت كالفحيح:
مفيش شغل تانى يازينة، و ياريت متستفزنيش، انتى لسة متعرفيش أنا ممكن أعمل فيكى ايه؟
ابتسمت بسخرية قائلة:
صدقنى عارفة.
عقد حاجبيه من لهجتها الساخرة والتى تقطر بالمرارة دون أن تدرى، كاد أن يسألها ماذا تقصد بكلماتها، ولكن تاهت منه الكلمات وهو يرى شفتيها تنفرجان لتغيم عينيه وهو يتذكر مذاقهما الذى حرمه النوم لسنوات، شعرت بأنفاسها تضطرب من نظراته وقلبها تتسارع دقاته وهي تراه يقترب من شفتيها يكاد أن يقبلها، أغمضت عينيها رغما عنها تنتظر قبلة اشتاقت إليها، قبلة لطالما راودت ذكراها أحلامها، لتشعر بالفعل بشفتيه تلامس شفتيها بتردد في بادئ الأمر وكأن مروان يستكشفها لأول مرة، أو ربما يخشى شيئا ما لتتعمق قبلته بعدها وتصبح متطلبة لتجد نفسها تمد يدها على طول ذراعيه حتى وصلت إلى رأسه لتضمه إليها تبادله قبلته بإشتياق عجزت عن كبحه، كادت أنفاسهم أن تزهق ليترك مروان شفتيها كي يتنفسا وهو يضع جبهته على جبهتها مغمض العينين بدوره، ابتعد بوجهه عنها يفتح عينيه ببطئ ينظر إلى عينيها التى انفلجتا ببطئ بدورهما تنظر إليه نظرات تائهة ليذوب في عمق عينيها رافضا كل ما يدور برأسه يمنعه عن قبلة الحياة والتى أعادت إليه روحه، ومنحته شعورا افتقده بشدة، ليقترب مجددا من شفتيها المنفلجتين ينوى أن يروى روحه الظمآنة إليها لكن نحنحة رجولية قاطعته ليلتفتا سويا الى باب المكتب، وجدت زينة رجلا في مثل عمر مروان تقريبا يقف على الباب ينقل نظراته بينهما في فضول بينما تنحنح مروان وهو يبتعد عن زينة التى تركته على الفور وهي تشعر بالخجل، اتجه مروان الى مقعد مكتبه قائلا:.
تعالى ياياسين،
ثم وجه حديثه إلى زينة التى مازالت واقفة مكانها لاتدرى ماذا تفعل؟ليقول بصوت رغما عنه خرج حادا وكأنه يشعر بالغضب من نفسه لاستسلامه لمشاعره:
اتفضلى انتى دلوقتى، هنكمل كلامنا بعدين.
أحست زينة بأنها تود أن تدفن مكانها الآن لشدة خجلها، فأسرعت بالمغادرة دون أن تنبت بحرف بينما تابعها ياسين حتى اختفت عن الأنظار ليدلف الى الغرفة قائلا:
هي دى بقى زينة؟
أومأ مروان برأسه في هدوء، جلس ياسين قائلا:.
مقلتليش يعنى انها حلوة أوى كدة.
زمجر مروان قائلا:
ياسين.
رفع ياسين يديه استسلاما وهو يقول في مرح:
خلاص ياسيدى أنا آسف.
لتنقلب ملامحه المازحة الى الجدية وهو يميل قائلا:
بس لازم أحذرك يامروان، اللى انا شفته من شوية ده، مش قصة حب منتهية زي ما فهمتنى، لأ، الموضوع أكبر من كدة، كل الشرارات اللى كانت حواليكم بتقول عكس اللى قلتهولى، ده غير…
وترك جملته معلقة وهو ينظر إلى شفاه مروان المنتفخة لينظر اليه مروان قائلا في استنكار:
ياسين، انت بتخرف بس بتقول ايه؟
قال ياسين بهدوء:
أنا بقول اللى أنا شايفه أدامى يامروان، عموما، مش ده الموضوع اللى جاي أتكلم فيه معاك.
تراجع مروان في مقعده قائلا في حدة:
وايه هو الموضوع ده بقى ياسيدى؟
نظر ياسين اليه قائلا:
شركة السلطانة عايزة تدينا توكيل حصرى لمنتجاتها في مصر.
أطرق مروان برأسه مفكرا للحظات قبل ان يرفع راسه قائلا:
اختيارهم لشركتنا غريب بس كدة حلو اوى، تعرف لو ده حصل يبقى هنضرب عدنان في مقتل، انت عارف أد ايه كان نفسه ياخد التوكيل ده.
قال ياسين في توتر:
عارف بس…
عقد مروان حاجبيه عندما صمت ياسين ليقول بهدوء:
بس ايه ياياسين، ما تتكلم؟
قال ياسين وهو ينظر الى مروان مباشرة:
عايزين يدخلوا شريك معانا بالتلت.
عقد مروان حاجبيه قائلا:.
غريبة؟ليه عايزين يبقوا شركا معانا، هيستفيدوا ايه؟
قال ياسين:
لما سألتهم أصلا ليه اختاروا شركتنا بالذات قالوا عشان في فترة قصيرة بقت من أكبر الشركات في مجالنا، بصراحة رد مقنع وخصوصا لو شركة شريفة أكيد مش هتحب تتعامل مع عدنان لان سمعته معروفة، بس الشراكة ده اللى مش قادر ألاقيلها سببب مقنع أبدا.
قال مروان بعد لحظات من التفكير:.
انا شايف ان الموضوع عادى وميستاهلش القلق ده، شركة السلطانة مشهورة وليها اسمها الكبير ووضعها في السوق، المفروض هم اللى يقلقوا مش احنا، ياترى سبب المشكلة اللى حاسسها في صوتك وملامحك دول بقى ايه؟
قال ياسين بعد لحظة تردد:
الشركة ليها شريكين زينا بالظبط، نبيل عزام وده معنديش أي اعتراض عليه، لكن الشريك التانى، فتون سلطان، دى بقى مش هقدر أتعامل معاها ابدا.
عقد مروان حاجبيه قائلا:
ليه، مالها؟
قال ياسين وهو يطرق برأسه قائلا:
بتفكرنى بميسون يامروان، نفس الروح، نفس العينين، نفس الابتسامة.
رفع رأسه لتلتقى نظراتهم وهو يستطرد قائلا:
انت عارف أد ايه أنا حاسس بالذنب من ناحية ميسون الله يرحمها، كل ما هشوفها هفتكر كل اللى حصل، هتعذب من جديد، الذنب هيقتلنى.
نقر مروان على المكتب قائلا:.
الله يرحمها، بص ياياسين، أنا عايزك تنسى، اللى حصل زمان كان غلطة مش حابب تعيش عمرك تعذب نفسك عشانها، احنا اتفقنا على ايه؟ مش اتفقنا نرمى كل غلطات الماضى ونفكر بس في الانتقام من اللى كانوا السبب في كل حاجة وحشة حصلت لينا في حياتنا، وان مفيش حاجة هتقف أدامنا في سبيل تحقيق انتقامنا، مش ده كان اتفاقنا؟
قال ياسين في تردد:
أيوة بس…
قاطعه مروان قائلا:.
من غير بس، حياتنا الشخصية لازم تكون بعيدة عن شغلنا اللى هيساعدنا في انتقامنا ياياسين، مفهوم؟
اومأ ياسين برأسه موافقا وهو يقول:
اللى تشوفه يامروان، انا هقوم امشى بقى عشان اتأخرت على تيتة ودارين.
اومأ مروان برأسه فنهض ياسين مغادرا ولكنه توقف ثم التفت الى مروان قائلا:
ياريت انت كمان تخلى حياتك الشخصية بعيدة عن شغلنا يامروان.
ثم ابتعد مغادرا ليظهر الألم على وجه مروان يدرك ما يلمح اليه ياسين، فنصيحته لياسين كان أولى أن ينصح بها نفسه، فهو ينصحه بتنحية مشاعره الشخصية جانبا عن خطتهم للانتقام، وقد آوى زينة وطفلها عنده وهو يعلم كم سيغضب ذلك عدنان إن علم به، وكيف سيؤدى ذلك الى فشل خطتهما، يدرك أن ياسين معه حق، فهما لا يستطيعان تنحية مشاعرهم جانبا فمشاعرهم هي ما أوصلتهم الى هنا، إنها نقطة ضعفهم التى من الممكن أن تودى بحياتهم ان أثرت على عقلهم وأفقدتهم التركيز، ولكن هل يستطيع أيا منهم أن يتخلى عن قلبه ومشاعره؟، بالتأكيد لا.
دلفت فتون الى حجرة نبيل بعد ان سمح لها بالدخول، وما ان رآها حتى أدرك على الفور ما يعتريها من قلق يظهر على كل ملامحها لينهض قائلا:
مالك بس يافتون؟ قلقانة كدة ليه بس؟
قالت فتون في عصبية:
مش عارف قلقانة ليه يانبيل؟، الأستاذ مردش علينا لغاية دلوقتى، عارف ده معناه ايه؟
هز نبيل كتفيه في لامبالاة قائلا:.
عادى يافتون، ده طبيعى جدا على فكرة، هو قلق بس مننا ومحتاج ياخد وقته عشان يطمن، وبعدين مش هو قالك انه لازم ياخد رأي شريكه ولا نسيتى؟
قالت فتون في ضيق:
لأ منستش طبعا، بس برده أخد وقت كبير، احنا بقالنا يومين.
قال نبيل بهدوء وهو يقترب منها يمسكها من كتفيها قائلا وهو ينظر الى عينيها مباشرة:
قوليلى السبب الحقيقى اللى مخليكى متوترة بالشكل ده؟
حاولت فتون أن تتحاشى نظراته ليترك كتفيها ويمسك ذقنها بيده يجبرها على مواجهة عينيه وهو يقول:
قوليلى يافتون وافتحيلى قلبك.
تنهدت فتون قائلة:
قلقانة يانبيل، قلقانة من ياسين، قبل ما أشوفه مكنش عندى القلق ده، بس بعد ما شفته قلقت منه، ذكى أوى ومش سهل والأخطر من كدة بصته لية، لمسته، معرفش، بتوترتى أوى، مبحسش بالراحة وانا معاه، فاهمنى؟
قال نبيل:.
أكيد فاهمك، بس ده احساس طبيعى، اللى أدامك وبتتعاملى معاه ده مش راجل عادى، ده اللى قتل أختك وحرمك منها.
أطرقت فتون برأسها تخفى عنه عيونها فمن المفترض أن يكون ذلك بالفعل احساسها تجاهه فهى تمقته من أجل هذا ولكن هناك شعور غريب بالانجذاب تجاهه أيضا، شعور يقتحم قلبها تحاول أن توأده في مهده، أن تذكر نفسها بأن هذا الرجل هو قاتل أختها الحبيبة، تستدعى كل ذكرى لها مع أختها والتى قد تجعلها تنفر منه أكثر، ويحدث ذلك بالفعل ولكن عندما تغمض عينيها ترى نظرات عينيه العميقة، تتسلل اليها نبرات صوته الرخيمة لتصيبها رغما عنها رعشة في قلبها، لتنتفض وتفتح عينيها على مصراعيهما تمسح تلك النظرات وتضع يديها على أذنيها تكتم ذلك الصوت، يبدو انها على وشك الجنون، لا تدرى حقا، كل ما تعرفه الآن أنه لسلامتها، وسلامتها العقلية فقط يجب أن تبتعد عن هذا الياسين والذى تحمل له مشاعر متناقضة للغاية، أفاقت من أفكارها على صوت رنين هاتف نبيل ليبتعد عنها نبيل وهو يبحث عن هاتفه فوجده على الطاولة ليقوم بالرد عليه، ظل يتمتم بكلمات الموافقة وعينيه تلتمعان لتدرك فتون أن هذه المكالمة تخص ياسين، انتظرته حتى أنهى المكالمة لينظر اليها قائلا في سعادة:.
ياسين وافق يافتون، وافق، وطالبنا بكرة في مكتبه.
ابتسمت فتون تشاركه ظاهريا سعادته الجلية، ولكن قلبها يرتجف تلقائيا تخشى هذا اللقاء الذى يقربها خطوة من انتقامها ويغرقها أكثر في تفاصيل ذلك الرجل.